خالد بن سالم الغساني
منذ ثمانية عشر عامًا، ما يزال حصار غزة وقتل أبنائها وهدم بيوتهم والتنكيل بهم وتشريدهم، ثم تجويعهم، أكبر وصمة عار في جبين الإنسانية، حصارٌ حوَّل الأرض إلى أكبر سجن في العالم، يختنق فيه أكثر من مليوني إنسان، محرومين من أبسط حقوقهم: الغذاء والدواء والكهرباء وحرية الحركة. إنه عقاب جماعي موصوف، طويل الأمد، لم يشهد التاريخ مثيلًا له.
أمام هذا الصمت المطبق من القوى الدولية، انطلق أسطول الصمود، حاملًا صوت الشعوب الحرة من كل القارات، صوت يقول بوضوح: "غزة ليست وحدها، والحصار جريمة في حق الإنسانية جمعاء"؛ حيث اجتمع على متن سُفنه ومراكبه التي ضمت عددًا من البرلمانيين والناشطين والأطباء والصحفيين، والحقوقيين والمثقفين، وشخصيات بارزة في الرأي العام العالمي، ليؤكدون أن القضية الفلسطينية ما كانت يومًا نزاعًا محليًا، إنها قضية ضمير عالمي.
لكن دويلة الكيان المحتل، المتجبرة والمستقوية بقوى الشر والعدوان، دول الاستعمار الغربي، ورأس حربتها الشيطانية، الولايات المتحدة الأمريكية، وكعادتها، لم تتحمل هذا الصوت الإنساني، فاختارت أن ترد بوجهها الحقيقي، حين قامت باعتراض السفن في عرض البحر وفي المياه الدولية غير آبهةٍ بالقوانين الدولية وفي انتهاك صارخ لها، وحاصرت المشاركين بالقوة، مستخدمة الطائرات المسيّرة وخراطيم المياه واصطدامات عنيفة ومتعمدة، سيطرت من خلالها على عدد كبير من السفن، واقتادت قوارب أخرى بالقوة إلى موانئها، ثم قمت باعتقال جميع من كانوا على متن الأسطول، من ناشطين وصحفيين وبرلمانيين وأطباء، وكأنهم مجرمون، لمجرد أنهم حملوا رسالة حياة لشعب محاصر.
إنها جريمة مضاعفة تضاف إلى جرائمها التي لا تعد ولا تحصى، اعتداء على الفلسطينيين أولًا، واعتداء على الإنسانية جمعاء ثانيًا.
فما ارتكبته إسرائيل لا يمكن قراءته إلا بوصفه حربًا مفتوحة على التضامن العالمي نفسه، وإعلانًا وقحًا بأنها لن تسمح حتى للضمير الحر أن يمر عبر بوابات غزة.
ورغم أن مشهد السيطرة والاعتقال حمل عنفًا وهمجية، إلا أنه في الحقيقة عرّى إسرائيل أمام العالم أكثر من أي وقت مضى. لقد شاهدت الشعوب كيف يُعامَل الأطباء والصحفيون والبرلمانيون، فقط لأنهم اختاروا الوقوف إلى جانب غزة. وبهذا، فإن الاحتلال لم ينجح في إسكات الأسطول، بل زاد من صوته قوة واتساعًا.
هذه العنجهية ما كانت لتستمر لولا الغطاء الغربي السميك؛ إذ تواصل القوى الاستعمارية الكبرى تزويد إسرائيل بالسلاح، وتوفير الحماية السياسية لها في المحافل الدولية، متذرعة دائمًا بشعار “حق الدفاع عن النفس”، بينما الحقيقة أن ما جرى هو عدوان سافر على المدنيين وعلى القانون الدولي. وبهذا فإن تلك القوى العدوانية، شريك أساسي في هذه الجريمة، أخلاقيًا وسياسيًا وقانونيًا.
وإذا كانت دويلة الاحتلال تعتقد أنها قد حققت نصرًا بسيطرتها على الأسطول، إلا أننا نؤمن بأنه وبالرغم من قمع الأسطول، فهو الذي حقق نصرًا معنويًا عظيمًا؛ حيث أعاد حصار غزة إلى واجهة الرأي العام العالمي وفضح إسرائيل كقوة وحشية لا تقيم وزنًا للقانون أو الإنسانية، وأحرج الحكومات المتواطئة، وكشف عجز المؤسسات الدولية. ثم أنه أكد أن التضامن الشعبي يتسع، وأن الصمت لم يعد ممكنًا.
لقد أثبت شرفاء وأحرار العالم، وهم يركبون البحر نحو غزة، بأن المعركة لم تعد فقط بين غزة والاحتلال، بل بين كيان عدواني محتل وغاشم، والضمير العالمي. وأن العالم الحر حين يتحرك، فإن الكيان الصهيوني يكشف عن وجهه الأكثر توحشًا ورعبًا.
إن ما بعد الأسطول لن يكون كما قبله؛ بل ستتضاعف المبادرات، وترتفع الأصوات الحرة، وستكبر دوائر التضامن، والجدار الذي تهشم من الصمت الدولي لن يُعاد ترميمه. فأسطول الصمود قد كتب بإرادة وصمود ركّابه المعتقلين، وأصوات الأحرار شهادة جديدة على أن العدالة، مهما طال الزمن، ستبقى أقوى من جبروت قوى الاحتلال والاستعمار وغطرستهم.